بحث كامل عن الخليل بن أحمد الفراهيدي
عبقري العرب وشيخ أستاذ النحو في البصرة أبو عبد الرحمن الخليل ابن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الازدي اليحمدي، ولد في عمان عام ١٠٠هـ وترعرع وعاش حوالي سبعين سنة في البصرة مثالاً للعفة وصدق القول والنسك والتقشف والفقر.
قال عبد الله بن داود: «لقد نال الناس بالخليل وعلمه الرغائب وانه لبين اخصاص البصرة يزهد فيما يرغب فيه غيره».
وبينا كان طلابه ينعمون بالخير والرفاه بعلمهم الذي أخذوه عنه كان هو ينقع الخبز اليابس ليسهل عليه أكله قال النضر بن شميل: «ما رأى الراؤون مثل الخليل ولا رأى الخليل مثل نفسه».
وعلى ما كان عليه من الفقر والفاقة وزراية الشكل كان يملأ نفوس المقربين اليه بحيث تبرز لهم عظمة جهوده وسمو عبقريته حتى لقد قال عنه حمزة بن حسن الاصفهاني: «ان دولة الاسلام لم تخرج أبدع للعلوم التي لم يكن لها عند علماء العرب اصول من الخليل وليس على ذلك برهان أوضح من علم العروض الذي لا عن حكيم أخذه ولا عن مثال تقدمه احتذاء وإنما اخترعه من ممر له بالصفارين من وقع مطرقة على طست».
أن الخليل هو الملهم لفن العروض وعلمه؛ وهو المبتكر لأصول اللغة وفن القواميس في كتابه العين؛ وهو الشيخ الذي تلمذ له سيبويه موضع الكتاب - دستور النحو -، وهو المبدع في الألحان حتى لظن به الظانون من كتاب العرب بأنه أخذ علومه عن اليونانية، وهو الذي كان يعمل على وضع طريقة حسابية بحيث لا تغلب بعده الجارية على أمرها أن دخلت السوق للتسوق.
مات عام ۱۷۰هـ بعد أن اصطدم رأسه بعمود دون أن ينتبه لذلك.
قال الكسائي: «مات والله الفهم يوم مات الخليل، لو رأيته لم يعظم في عينك بشر بعده». (١)
سيرته
الخليل مثل رائع من هذه الأمثلة التي كان لصنيعها أثر ملموس في الحياة العقلية العربية الاسلامية، فقد امتد نبوغه الى موضوعات ثقافية عدة، فبرز فيها، وكان له فيها أثر الخلق والإبداع.
وذكرت المصادر أن الفراهيدي لم يغادر البصرة إلا للحج والتطراف في بوادي نجد والحجاز وتهامة يسمع من إعرابها والى خراسان حيث يقيم تلميذه وصديقه الليث بن المظفر.
ان الاهمال الذي أصاب الخليل في حياته يرجع الى السياسة اولا والى المجتمع ثانياً، فمن جهة السياسة كانت عقيدة الخوارج التي نشأ عليها، إذ المعروف عن الخوارج أنهم من العناصر المناوئة للحكم النائم. يومذاك، ولقد اضطهدها رجال الحكم انذاك وتجنبها الناس، أما ما يرجع إلى المجتمع فقد كان الخليل من الزهاد الورعين لا يلتف، الى ما في الدنيا من متاع وناس.
لقد كانت البصرة مركزا علمياً لم يعرف تاريخ العربية الى العصر الذي عاش فيه الخليل، مركزاً زاخرا للثقافات غيره كان الخليل يغترف من كل ألوان المعرفة فيها ولا يكتفي بلون واحد، وانما يحاول الوقوف على جميع تياراتها الثقافية ويستفيد منها.
ان مواهب الخليل العلمية أبرزت نفسها وان لاقت الصعاب فقد جاء في كتاب الحيوان للجاحظ أن النظام أستاذ الجاحظ ذكر الخليل بن أحمد فقال توحد به العجب، وصور له الاستبداد صواب رأية تتعاطى ما لا يحسنه ورام مالا يناله، وفتنته دوائره التي لا يحتاج إليها أحد غيره.
وقد تابع الجاحظ أستاذه النظام في ذم الخليل ونكران نضله.
أن الخليل كان من رجال الدين المجاهدين، وقد انصرف الى خدمته عن طريق العلم. وعكف عليه عكوف المتصوفين، ناركا الحياة وما فيها، وما يتسارع اليه الآخرون من مال وجاه ومنصب، لقد اعتزل كل ذلك في صومعته غالقاً عليه بابه لا يجاوزه، حتى قضى حياته في طلبه، وقد كان يقول إن لم تكن هذه الطائفة أولياء الله فليس له ولي. (٢)
مشايخه
من أشهر العلماء الذين حدث عنهم: (٣)
- أيوب السختياني.
- أبي عمرو بن العلاء.
- عاصم الأحول.
- العوام بن حوشب.
- غالب القطان.
تلاميذه
من أشهر العلماء الذين أخذوا عنه: (٤)
- الأصمعي.
- سيبويه.
- النضر بن شميل.
- هارون بن موسى النحوي.
- وهب بن جرير.
- الأصمعي.
مؤلفاته
من أشهر مؤلفاته كتاب العين؛ مات ولم يتممه كتاب، ولا هذبه، ولكن العلماء يغرفون من بحره. (٥)
مصادر علمه
ولد الخليل سنة ١٠٠ للهجرة، وكانت البصرة إذ ذاك تستقبل عهدا جديدا، وتدون تاريخا مشرقا، وتفتح صدرها الرحب للوافدين إليها من الآفاق ، تجارا وطلاب علم، وتكتب ديوانا جديدا للعرب بتدفق الحياة في مربدها، وتشق طريقها الى المجد في العلم واللغة والعمارة، والتجارة، وقد ازدهرت الحياة العقلية فيها ازدهارا عز نظيره، وندر مثاله، فقد التقت فيها الحضارات، وتفاعلت فيها الأفكار.
وشبّ الخليل فشب معه ذهن ذكي، وفطنة نادرة، وعقل مستوعب فاحص، فاستخدم كل هذه الأدوات كأحسن ما يكون الاستخدام، فتفجر عقله نبوغا وعبقرية، وتدفقت نفسه زهدا وورعا، وخلقا سمحا، وتواضعا جمّاء.
كان الخليل قد فتح عينيه على مجالس الدرس في مسجد البصرة حافلة بالدارسين، وكان ينتقل بين هذه المجالس، ويختلف الى الشيوخ، يتكثر من العلم ليعرف، ويتقلل منه ليحفظ، فإذا خرج من المسجد عرج على المربد ليسمع الأعراب، ويشافه الفصحاء، ويأخذ مكانه بين المتحلقين حول الشعراء والخطباء يتناشدون ويتفاخرون.
والبصرة، كما نعلم، متصلة بالبادية، محاذية لها، وكانت مضارب تميم تمتد من البصرة حتى مشارف الكوفة، وكان الأعراب من بني تميم من باطن البادية يتوافدون على البصرة للجلب والميرة، وتبادل السلع، وكان أهل البصرة يختلفون الى المربد للتبادل مع هؤلاء الأعراب وفيهم فئات من الدارسين جاءوا إلى المربد لتحصيل اللغة والشعر والأخبار، يتلقطون ذلك من الأعراب وكانوا يدونون ما كانوا يسمعون في ألواح، وكان منهم من لم يدع فرصة إلا اهتبلها في المواسم التي يقبل فيها الأعراب، وهؤلاء هم المربديون الذين أشار إليه الجاحظ.
وأكثر أعلام اللغة والنحو كانوا قد اختلفوا إلى المربد، منهم: أبو عمرو بن العلاء، وأبو الخطاب الأخفش والأصمعي، وأبو عبيدة، وأبو زيد الأنصاري، والنضر بن شميل، وغيرهم.
وكان أبو زيد خاصة يلح في مسألة الأعراب ليستنفد ما عندهم وهو كثير الرواية عنهم، كثير النقل، وكان يلازم بعض الأعراب من عقيل وقشير، ويتعلم عندهم.
وعن هؤلاء الأعراب الذين نزلوا البصرة وأقاموا فيها كان العلماء واللغويون والرواة يأخذون القصيد والأرجاز ويتلقفون الفصاحة واللغات والغريب.
وكان من الأعراب الفصحاء من أحس بحاجة أهل البصرة إليهم، فكانوا يفدون إلى البصرة لا للجلب والميرة، ولا لتبادل السلع، ولكن لعرض ما عندهم من غريب ونادر كلام وشعر ورجز، ثم يقيمون في المربد وحوله.
ومن هؤلاء: المنتجع الطائي، وأبو مهدية الأعرابي، وأبو مالك عمرو بن كركرة، وأبو خيرة، وأبو الدقيش، وكان الخليل بن أحمد يأخذ عن هؤلاء، ويختلف إليهم، وأبو الجاموس ثور بن يزيد الأعرابي الذي كان يفد على آل سليمان بن علي وكان ابن المقفع يلازمه، ويأخذ عنه الفصاحة.
وقد عرض ابن النديم لهؤلاء وغيرهم في الفصل الذي عقده لذكر أسماء فصحاء العرب المشهورين، الذين سمع منهم العلماء وشيء من أخبارهم وانسابهم.
هؤلاء هم علماء البادية الذين أخذ عنهم علماء البصرة والكوفة.
منهم رواة أخبار، ومنهم رواة شعر، ومنهم نسابون، ومنهم فصحاء أخذت عنهم الفصاحة، وكان علماء المصريين يحتجون بكلامهم، ويستكثرون عنهم، ويحتكمون لديهم فيما اختلفوا فيه.
فالمربد إذن بمواسمه، وبفرص اللقاء فيه بين الأعراب الوافدين وأهل البصرة كان مدرسة تخرج فيها كثير من الدارسين، وكان مركزا ثقافيا مهما قام عليه، وعلى غيره من المراكز الثقافية مجد البصرة في العلم والأدب واللغة.
وإذا عرفنا أن الخليل كان يحج سنة ويغزو سنة فإن سنة الحج كانت تتيح للخليل فرصاً كبيرة للقاء الأعراب في البوادي ومشافهتهم والإصغاء إليهم، والاحاطة بما يستسيغون وما لا يستسيغون من تراكيب لغوية وأبنية ومفردات ولهجات وربما أبعد في ملاحظاته فشملت أساليبهم في التعبير، وطرائقهم في الأداء وإخراج الحروف، وما يطرأ عليها من تغيير حين تتألف الحروف في كلمات، ومالها من خصائص كالنصاعة والقوة والخفاء والطلاقة والذلاقة.
ولا ريب أن لمشافهته الأعراب في هذه البوادي تأثيرا خاصا في الخليل وتخصصه في المباحث اللغوية والنحوية، وإدراكه أسرار البناء والتأليف، وكشفه كثيرا من الغوامض، وتفسيره كثيرا من الظواهر.
وإذ قال له الكسائي يوما، وكان يلازم مجلسه ويأخذ عنه: «من أين علمك هذا ؟» قال له الخليل: «من بوادي الحجاز ونجد وتهامة».
فخرج الكسائي إلى هذه البوادي، ومكث فيها مدة طويلة، كان فيها يسمع ويشافه ويدون، حتى أنفذ كما قيل، في التدوين خمس عشرة قنينة من الحبر، غير ما كان حفظ.
فالخليل، مع ما وهب من عقل مستوعب، وذهن ناقد، كان قد رفدته البصرة بكل مالديها، وتعهدته تلك البوادي بكل ما فيها، فالتقت في ذهنه بيئة كل تلك الثقافات، وحفظها، وتمثلها، وأعاد صوغها، وأحكم بناءها وتبويبها وتصنيفها، وأضاف إليها تجاربه، وأمدها بإبداعه، ثم أملاهاء لمى الدارسين، فاذا هي عطاء إنساني ضخم، طفر بالعقل من طور السذاجة والفجاجة الى طور النضج والاكتمال، وإذا بالدرس اللغوي غير الدرس اللغوي، وبالنحو، غير النحو، وإذا بالدارسين ينثالون على مجلسه من كل جانب ومن كل أفق، ليعبوا من نحو الخليل في (الكتاب)، ولغة الخليل في كتاب العين، واختراع الخليل في العروض. (٦)
قائمة المراجع:
١- حاتم الضامن، ضياء الدين الحيدري، شعر الخليل بن أحمد الفراهيدي، مطبعة المعارف، بغداد، ١٩٧٣، ص ٣-٤.
٢- د. هادي النهر، عبد الستار خلف العكيدي، الاتجاه اللغوي عند الخليل الفراهيدي، العدد ١٦، ١٩٨٨، ص ١٨-١٩-٢٠.
٣- د.خالد بن محمود الجهني، الخليل بن أحمد ومنهجه في كتاب العين، ص ٥.
٤- المرجع السابق نفسه، ص ٥.
٥- المرجع السابق نفسه، ص ٥.
٦- مهدي المخزومي، الفراهيدي عبقري من البصرة، ط٢، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ١٩٨٩، ص ٣٠-٣١-٣٢.