بحث كامل عن البوصيري: صاحب "البردة" وشاعر المدائح النبوية الخالدة (ملف شامل)

بحث كامل عن البوصيري: صاحب "البردة" وشاعر المدائح النبوية الخالدة (ملف شامل)

هل يُعقل أن تكون قصيدة سبباً في الشفاء من الشلل؟

في ليلة من ليالي القرن السابع الهجري، كان هناك شاعر عاجز قد أصابه "الفالج" (الشلل النصفي)، فلم يجد ترياقاً لمرضه إلا أن ينظم قصيدة بدموع قلبه يمدح فيها سيد الخلق. نام الشاعر فرأى النبي ﷺ يلقي عليه بردة (عباءة)، فاستيقظ وقد شُفي تماماً!

هذا الشاعر هو الإمام البوصيري، وتلك القصيدة هي "البردة" التي ما زالت تُتلى في مشارق الأرض ومغاربها. في هذا الملف، نغوص في حياة هذا العاشق الصوفي، ونستعرض سيرته من صعيد مصر إلى الإسكندرية.

الاسم الكامل: محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري.

اللقب: شرف الدين / تاج الأدباء / مادح النبي.

المولد: مستهل شوال ٦٠٨ هـ (١٢١٣ م).

مكان الميلاد: دلاص (بني سويف - مصر)، وأصله من المغرب.

الوفاة: ٦٩٦ هـ (١٢٩٦ م) بالإسكندرية.

أشهر أعماله: الكواكب الدرية في مدح خير البرية (البردة).

شيخه الروحي: أبو العباس المرسي.

البوصيري

النسب والنشأة: مغربي الجذور، مصري الهوى


هو الشيخ الفقيه العالم العلامة الرُّحَلَةُ الفهامة تاج الأدباء وواحد الفضلاء مفيد الطالبين وعمدة المحققين شرف الدين محمد بن سعيد بن حماد بن محسن بن عبد الله بن حياني بن صنهاج بن ملاك الصنهاجي البوصيري، أبو عبد الله كان أَحد أبويه من أبو صير والأخر من دلاص فركبت له نسبة منهما وقيل الدلا صيري لكنه اشتهر بالبوصيري. (١)


اعتزازه بأصله:


أصله من قلعة حماد ببلاد المغرب، يقال لهم بنو حَبْنون على وزن زيدون، ولد بناحية دلاص وقيل بهشيم من أعمال البهنسا يوم الثلاثاء مستهل شوال سنة ثمان وستمائة في أكثر المصادر.


وذكر المقريزي أن ولادته بين سنة ست أو سبع أو عشر وستمائة ونشأ بدلاص.


وقد أشار البوصيري إلى أصله المغربي معتزا به في قوله:


فَقُلْ لنا مَنْ ذا الأديبُ الَّذي … زادَ به حُبِّي وَوَسْواسي ؟


إنْ كان مِثْلي مَغْرِبِيًّا   فَما … في صُحْبَة الأَجناس  من بأس 


وَإِنْ  يُكَذَِّبْ  نِسْبَتي  جِئْتُهُ … بَجُبَّةِ الصُّوفِ  وَدَ فّاسي (٢)


نسبه


أما بالنسبة إلى نسبه فقد ورد ما يدل على أنه كناني النسب "أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان بن عمر البوصيري بلدا الكناني نسبا ".(٣)


شيوخه وتلاميذه


ولعل مما يشير الدهشة، أن المصادر التاريخية ـ على كثرتها ـ لم تشر إلى شيوخ البوصيري الذين نهل من موردهم، واغترف من بحر علمهم، وأشارت إلى بعض تلامذته اللهم إلا إشارة خفيفة إلى شيخه في التصوف هو الشيخ أبو العباس المرسي تلميذ الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضى الله من الجميع - ومن تلامذة البوصيري: أبو حيان الأندلسي، وابن سيد الناس، ابن جماعة، إلا أن تلمذة هؤلاء الأئمة الأعلام على البوصيري يثير تساؤلا في النفس: 


أمعنى ذلك أن البوصيري قد بلغ في العلم مرتبة جعلته أهلا الجلوس هؤلاء الأفذاذ بين يديه؟ ولعل الأقرب إلى القبول أنهم تتلمذوا عليه فى رواية نوادره وشعره، وبخاصة مدائحه النبوية - التي عرف بالإجادة فيها ـ ومما يؤكد ذلك أن لأبي حيان الأندلسي بعض القصائد في المدائح النبوية.


أما العلوم الأخرى دينية وعربية - فكانوا فيها الأئمة الأعلام الذين لا يشق لهم فيها غبار، بل يمكن القول: لعل الشاعر أخذ عنهم نظا من تلك العلوم أثناء اتصالهم به، إذ كان ديدن السابقين من علمائنا أن يأخذوا ويعطوا ولا يرون غضاضة في جلوسهم في علم إلى من يجلس إليهم في علم آخر. (٤)


قصة "قصيدة البردة": المعجزة الشعرية


تعد بردة البوصيري من أفضل القصائد التي نظمت في المديح النبوي، لما إنمازت به هذه القصيدة من مزايا فريدة قلما نجدها في قصيدة أخرى، فضلاً عن إنها قيلت في عصر شاع فيه استعمال المحسنات البديعية، ولا سيما في نظم الشعر، وما لحق به من تكلف في الصنعة وهذا ما أفقده روح الشعر فأصبح جسداً محنطاً، لكن البردة ظلت حية على الرغم من وجود الزخارف والمحسنات البديعية؛ وذلك لأنها انمازت بصدق التعبير مما ضمن لها شهرة وذيوعاً لم تبلغها أي قصيدة قيلت في المديح النبوي على الرغم من كثرة القصائد التي قيلت بهذا الغرض في عصرها وما تلاه من العصور حتى يومنا هذا؛ وهو ما يفسر عناية الأدباء والعلماء بها من العرب والأعاجم بصورة لا نكاد نجد لها مثيلاً مع أي نص شعري آخر. (٥)

سبب تسميتها بالبردة:

أما عن سبب تسميتها بالبردة وسبب وضعها يروي لنا الشاعر ذلك بقوله: كنت قد نظمت قصائد في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها ما اقترحه على الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير ثم اتفق بعد ذلك أن صاحبني فالج أبطل نصفي، ففكرت في عمل قصيدتي هذه فعملتها، واستشفعت بها إلى الله تعالى في أن يعافيني، وكررت إنشادها، ودعوت وتوسلت، ونمت فرأيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمسح وجهي بيده المباركة، وألقى علي بردة، فانتبهت ووجدت في نهضة، فقمت وخرجت من بيتي، ولم أكن أعلمت بذلك أحداً فلقيني بعض الفقراء فقال لي:


أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلت: أيها ؟ فقال:


التي أنشأتها في مرضك وذكر أولها، وقال: والله لقد سمعتها البارحة وهي تنشد بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتمايل وأعجبته، وألقى على من أنشدها بردة، فأعطيته إياها، وذكر الفقير ذلك، ويشا المنام). (٦)


مميزات شعره: لماذا تفوق على معاصريه؟


امتاز شعر البوصيري بالرصانة والجزالة، وجمال التعبير، والحس المرهف، وقوة العاطفة، وعُرِفَ البوصيري بمدائحه النبوية التي أجاد فيها استعمال البديع، كما برع في استعمال البيان، ومما أكسب شعره ومدائحه قوة ورصانة وشاعرية متميزة؛ استعماله للمحسنات البديعية من غير تكلف، وهذا ما لم يتوافر لكثير من الشعراء الذين نظموا في الشعر الصوفي ولا سيما المدائح النبوية. (٧)


  شهادة النقاد:


أثنى العلماء والأدباء على شعر البوصيري ووصفوه بالجودة، قال محمد بن شاكر الكتبي (٧٦٤هـ):


(وشعره في غاية الحسن واللطافة، عذب الأَلفاظ منسجم التركيب) وقال:(وللبوصيري في مديح النبي(ص) قصائد طنانة) وقال الصفدي (٧٦٤هـ):

(وشعره في غاية الحسن واللطافة، عذب الأَلفاظ منسجم)، كان الشيخ فتح الدين يقول:


(هو أحسن من شعر الجزار والوراق) وروى عن الشيخ أثير الدين أبي حيان الغرناطي (٧٢٥هـ) قوله:


(وللبوصيري في مدح النبي (ص) قصائد طنانة) وقال ابن العماد الحنبلي (١٠٨٩هـ):


(وبرع في النظم قال فيه الحافظ ابن سيد الناس هو أحسن من الجزار والوراق قاله السيوطي في حسن المحاضرة، وأقول والامر كما قال إِبن سيد الناس (٧٣٤هـ) ومن سبر شعره علم مزيته) ونقل محقق الديوان عن ابن حجر الهيتمي عن شهرة البردة قوله:


(كيف وقد ازدادت شهرتها إلى أن صار الناس يتدارسونها في البيوت والمساجد). (٨)


آثاره العلمية ومؤلفاته

  1. زوائد ابن ماجة (مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة).
  2. وإتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة أي على الكتب الستة له أيضا، وهو الكتاب نفسه الذي أعمل عليه. 
  3. وقد اختصره واسمه مختصر إتحاف السادة المهرة بزوائد المسانيد العشرة. وهذه الثلاثة مطبوعة والباقي مخطوط.
  4. تحفة الحبيب للحبيب بالزوائد في الترغيب والترهيب.
  5. جزء في خصال تعمل قبل الفوت فيمن يجري عليه بعد الموت.
  6. جزء في الحجامة.
  7. وفوائد المنتقي لزوائد البيهقي في سننه الكبرى على كتب الستة.
  8. رفع الشك باليقين في تبيين حال المختلطين. 
  9.  كتاب المدلسون من الرواة. (٩)

 

وفاته


اختلفت المصادر في عام وفاته وأقربها منه الصفدي (٧٦٤هـ) حيث يرجح الظن أن وفاته سنة (٦٩٦ أو٦٩٧هـ)، وتبعه في هذا الظن إبن تغري بردي (٨٧٤هـ) أما المقريزي (٨٤٥هـ) فبين أن وفاته سنة (٦٩٥هـ)، وتبعه بذلك السيوطي(٩١١هـ) ومن المتأخرين جرجي زيدان.


أما حاجي خليفة (١٠٦٨هـ) فذكر أن وفاته (٦٩٤هـ) في حين ذكر بروكلمان أنه توفي في عام (٦٩٤ أو ٦٩٥ أو ٦٩٦هـ) بالاسكندرية، ويقال أنه دفن بالقرب من الإمام الشافعي بالفسطاط، أما محقق الديوان فذكر تأريخ وفاته (٦٩٦هـ) من غير تعليق او اشارة الى المصادر ورجّح فتحي عثمان أن وفاته بالإسكندرية سنة (٦٩٦هـ) في ضوء مجلتي المقتطف والزهور في حين أشار عبد العليم القباني إلى مقدمة ابن حجر الهيتمي (٩٧٤هـ) لشرح الهمزية أن البوصيري ترك عمله في مباشرة الشرقية ولزم أبا العباس المرسي وهذا يقرر إِقامته آخر عمره بالاسكندرية ولم يحدد القباني تأريخ وفاته.


في ضوء ما تقدم يتبين أن أكثر المصادر وأقربها إلى الصِحة ترجح أن وفاته (٦٩٦هـ) رحمه الله في الاسكندرية. (١٠)

أسئلة شائعة عن البوصيري (FAQ)

​س: ما هو الاسم الحقيقي لقصيدة البردة؟

ج: اسمها الأصلي هو "الكواكب الدريَّة في مدح خير البريَّة"، واشتهرت باسم "البردة" نسبة لقصة الرؤيا.

​س: هل البوصيري مصري أم مغربي؟

ج: هو مغربي الأصل (من قبيلة صنهاجة)، ولكنه مصري المولد والنشأة والوفاة (ولد في دلاص وعاش في البوصير والإسكندرية).
س: أين يقع قبر البوصيري؟

ج: يقع ضريحه في مدينة الإسكندرية في مصر، في مسجد يحمل اسمه (مسجد البوصيري)، وهو قريب جداً من مسجد شيخه أبي العباس المرسي.
س: هل كتب البوصيري في الحديث النبوي؟

ج: نعم، تشير المصادر إلى أن له كتباً قيمة في "زوائد الحديث" مثل "زوائد ابن ماجة"، مما يدل على أنه كان عالماً بالحديث إلى جانب كونه شاعراً.


​🌗 أدب القرن السابع: بين دموع الفرح ودموع الأسى
لقد عشت الآن لحظات روحانية مع البوصيري الذي كتب "البردة" فكانت سبباً في شفائه من المرض.

ولكن في نفس هذا العصر (القرن السابع الهجري)، وعلى الضفة الأخرى من المتوسط، كان هناك شاعر آخر يكتب قصيدة خالدة أيضاً، ولكنها لم تكن للشفاء، بل كانت لرثاء حضارة كاملة تحتضر!
​بينما كان البوصيري يمدح النبي في مصر، كان أبو البقاء الرندي يبكي الأندلس في غرناطة.


قائمة المراجع: 


١- طارق أمين ساجر الرفاعي، بردة البوصيري وأثرها في شعر المديح النبوي الذي نهج نهجها حتى عام ١٩٣٢م، رسالة ماجستير، كلية الآداب، جامعة بغداد، العراق، ٢٠٠٦، ص ٨-٩.


٢- المرجع السابق نفسه. 

٣- سعد أمين محمد المناسيه، الصناعة الحديثة عند الإمام البوصيري في كتابه- إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، رسالة ماجستير، كلية الدراسات العليا، الجامعة الأردنية، ٢٠٠٤، ص ١٦.


٤- جابر عبد الرحمن سالم يحيى، بردة البوصيري ومعارضاتها في العصر الحديث دراسة وتحليل وموازنة، أطروحة دكتوراه، كلية اللغة العربية، جامعة الأزهر، ١٩٧٨، ص ٥١.


٥- عقيل عبد الحسن جبر الفتلاوي، شروح بردة البوصيري في الدرس الأدبي القديم حتى نهاية القرن الثالث عشر الهجري، رسالة ماجستير، كلية التربية للعلوم الإنسانية، جامعة المثنى، العراق، ٢٠١٨، ص ٤-٥.


٦- المرجع السابق نفسه. 

٧- المرجع السابق نفسه، ص ٢.


٨-  طارق أمين ساجر الرفاعي، مرجع سابق، ص ٢٣.


٩-  سعد أمين محمد المناسيه، مرجع سابق، ص ٢١-٢٢.


١٠- طارق أمين ساجر الرفاعي، مرجع سابق، ص ١٤.



مكتبة جواد
مكتبة جواد
تعليقات