نبذة عن الشاعر والعالم جلال الدين الرومي
هو العارف الرباني الكبير محمد بن جلال الدين البلخي الملقب ب «مولانا» أو «مولوي»، وربما يعد أعظم شعراء الفارسية ممن كتبوا عن العرفان، وواحد من كبار مفكري الاسلام حتى وقتنا الحاضر ومن أعظم الروافد المبدعة في تاريخ الانسانية الفني والفكري على الاطلاق.
ولد جلال الدين الرومي في مدينة «بلخ» التاريخية العريقة شمال شرقي أفغانستان الحالية، الى جوار مدينة «مزار شريف»، الواقعة في السهول الخصبة المروية من أحد روافد نهر جيحون.
وتاريخ ولادته الحقيقي مختلف فيه، إلا أنه يقع على الأرجح في السنوات القليلة الأولى من القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي.
كان والده «محمد بن الحسين الخطيبي» المدعو «بهاء الدين ولد» مرجعاً معتبراً في أمور الفتوى الاسلامية في بلده، ومدرساً معروفاً، وواعظاً، احتشد الناس حوله لتلقي دروسه وسماع موعظاته. وعلى رأسهم خوارزم شاه والعالم المفسر الكبير «فخر الدين الرازي». (١)
لقبه
اسمه الأصلي جلال الدين محمد ولقب بـ «مولانا» وكان لقب مولانا علامة للاحترام يضاف إلى أسماء الشخصيات البارزة في أيامه وكثير من الشخصيات لقبت بـ «مولانا» في ذلك الزمن، ولكن هذا اللقب اشتهر به جلال الدين الرومي لدرجة أنه عندما يقال مولانا يقصد به جلال الدين الرومي مباشرة وكذلك لقب جلال الدين بالرومي لأنه عاش بعد سنوات طفولته في قونيه اسمها القديم ديار الروم واعتبر قونيه وطناً له. (٢)
صفاته ومواهبه
شغل جلال الدين الرومي بالرياضة والعبادة العملية ومحاربة الشهوات وأمانة الجسد والعمل على إيقاظ الفضائل العقلية بدل الفضائل الجسمانية، وشغف باستماع الموسيقى والغناء ونظم الأشعار والاستغراق وانشادها والانقطاع والحرمان من اللذات الفانية وقطع المألوفات والمستحسنات المؤدية للاتحاد بالله والاتصال بالشخص الكامل المجهول من أكثر الناس، ويوصف بأنه كان معتدل القامة ليس بالبادن ولا بالنحيف مشرب بحمرة ثم انه نحف في اواخر سني حياته ومال لونه الى الصفرة بسبب الإجهاد الفكري والعمل المتواصل والتعبد، والحقيقة أنه يعتبر بنظر الأدباء من أشهر الشعراء الذين أخرجتهم إيران ومن أكثرهم إنتاجا وأغزرهم مادة وأعمقهم تفكيرا، ويعتبر ايضا كتابه «المثنوي» من الملاحم الكبرى التي قلما يجود بها الزمان الا نادراً وبالواقع انها منظومة فلسفية قيمة تحوي على خمسة وعشرين ألف وسبعمائة بيت في ستة أجزاء وقد اضيف اليها جزء سابع ولكنه عرف بأنه ليس من نظمه ويظهر فيها جلال الدين قوي البيان فياض الخيال عميق التفكير بارع التصوير بعيد النظر يوضح المعنى الواحد في صور مختلفة ويسوق المثل أثر المثل وتأتيه المعاني ارسالا وتواتيه الألفاظ اتيانا ويطاوعه الشعر حتى يأتي مزهوا مسترسلا وبين هذا أو ذاك يظل قلبه يطفح بالحب والشوق والاستغراق فكل شيء يذكر فيه وكل فكر يؤدي اليه مرتكزا على الفلسفة السامية والغناء الالهي.
أما ديوانه (شمس تبريزي) الذي سماه بأسم مرشده وإمامه وقائده الروحي أو بأسم الشخص الكامل الذي كان رسمه مطبوعا بقلبه واسمه عالقا بفكره، ففن آخر من النظام أنه قصائد متفرقة كل واحدة مستقلة عن الأخريات، أعني أنها نظمت للابانة عما جال في ضمير الشاعر وقد اختار لها وزنا خاصا وقافية جديدة ولم يشأ أن يجعل منها مقدمة المنظومة اخرى او مكملة لها وان كانت المعاني متشابهة متقاربة او متماثلة وهو فيض من الحب والغناء وغيرهما من المطالب الالهية العالية ويقع الديوان في (ستة واربعين الف بيت).
اجل يبدو جلال الدين في (المثنوي) أستاذ معلم مختلف الاساليب يخاطب وينصح ويعظ وينتقل من فن الى آخر، وفي الديوان تظهر القصائد القصيرة التي فيها فورة الشعر الوجداني والخيال الخصيب فهي اعلى من (المثنوي) وارقى منه ويكثر فيهما الرمز والتصوير والصناعة اللفظية وقد نشاهده يتحدث كثيرا كما تتحدث كبار الصوفية عن فناء الإنسانية ونراه يردد الزوال وامحاء انا وانت وفناء العالم في الله سبحانه وتعالى، ويرى أن العالم يرقى الى الله حائلا من جماد الى نبات إلى حيوان فانسان فملك ثم يفنى أخيرا في الله.
صرت اذا مت جمادا نامیا … مت نبتا مرت حيا ساعيا
مت حيوانا وإذا بي بشر … كيف اخشى الموت ماذا احذر
ثم اغدو مائتا بين البشر … طائرا في ملك لا استقر
ليس لي الا مسير نحوه … كل شيء هالك إلا وجهه
ثم اسمو طائرا فوق الملك … ذاك فوق الوهم لا يخطر
ثم أفنى والفنا كالارغون … لك منشدي انا اليه راجعون
وقد تتجلى عظمة جلال الدين في المناداة بالاختيار وحفز الناس إلى العمل والمسير قدما بل هو يرى أن الحياة جهاد مستمر لا ينبغي أن يسكن المجاهد فيها ساعة والالم عنده وسيلة اللذة والبكاء سبب الضحك، فكيف يضحك المرج إذا لم يبك الربيع؟ وكيف ينال الطفل اللبن بغير بكاء؟ والعناء أحرى والكد انفع، ورجل الطريق او رجل الله يلقى الخير والشر واللذة والالم راضيا مقدما موقنا انه بالألم يكمل ويرقى متى يبلغ غايته. (٣)
تنقلاته
كان والده عالماً دينياً، أحرز مكانة علمية مرموقة، ولكنه اضطر أن يترك بلخ لخلافه مع حاكم البلاد، وانتقل بإبنه سنة (٦٠٩هـ ) إلى مدينة نيسابور، وهناك التقت أسرة جلال الدين، بالشاعر المتصوّف فريد الدين العطار، وتذكر الروايات أنه تنبأ لجلال الدين بمستقبل عظيم، وأعطاه مؤلفه (أسرار نامه) المعروف باسم كتاب «الأسرار»...
لم يلبث الأب أن رحل بأسرته إلى بغداد ومكة المكرمة وملطية وأرزنجان ولارنده، واستقر أخيراً في مدينة قونية سنة (٦٢٣هـ)، وبعد وفاة والده، بقي جلال الدين في قونية لا يفارقها إلا ليعود إليها، وفيها التقى الصوفي المتجول شمس الدين التبريزي الذي كان له الأثر العميق في نفس جلال الدين وحياته وشعره، فأهداه دیوانه «شمس تبریز». (٤)
معلمه
يعتبر (شمس تبريزي) معلم جلال الدين ومرشده وملهمه وموجهه والمنعم عليه بالعلوم الفلسفية والالهية بل هو الذي نقله من مدرس يعلم العلوم الدينية الى داع منقطع للرياضة الالهية والفلسفية العميقة ونظم الشعر الوجداني العاطفي ويقول (دولتشاه) أن شمس الدين كان في صباه جميلا رائعا حتى انه ربي بين النساء غيرة عليه، ثم كثرت سياحاته وتنقلاته حتى لقب «بروانه» أي الفراشة، ومما يؤكد انه كان قوي النفس جريئا مؤثرا في جريئا مؤثرا في سامعيه شديدا عليهم يلقب من يعظهم احيانا بالثيران والحمير، وكان قليل الدرس فيما يظهر ولكن ثورة نفسه واعتقاده أنه ملهم وأنه ينحدر من أعظم اسرة انسانية كانا يسحران من يلقاه، وقد وضعه المستشرق البريطاني (نيكلسون) في مقدمة كتابه (قصائد مختارة) من ديوان (شمس تبريزي) وبين مشابهته سقراط في ثورته وقوته وان كلا منهما وجد من يعبر عن ارائه بكلام بليغ رقيق. (٥)
آثاره النثرية والشعرية
ترك جلال الدين آثاراً نثرية وشعرية.. آثاره النثرية تنحصر في ثلاثة مؤلفات هي: المجالس السبعة وهي عبارة عن مواعظ وخطب، كتبها قبل أن يعتنق الصوفية، وكتاب «فيه ما فيه» ويتضمن مجموعة من الأحاديث والمحاضرات التي ألقاها على مريديه وتلاميذه.. وكتاب يضم مجموعة من الرسائل التي كتبها في فترات متباعدة إلى أصدقائه ومعارفه وأقاربه..
أما آثار جلال الدين الرومي الشعرية، فتمثل الجانب الأكبر والهام من إنتاجه، وله قصائد وغزليات صوفية كتبت بالعربية واليونانية والفارسية والتركية، وأهم هذه الآثار على الإطلاق كتاب المثنوي الذي جمع في ستة أجزاء ويضم نحواً من ٢٥ ألف بيت شعر باللغة الفارسية، يتخللها بعض الأشعار التي كتبت باللغة العربية. (٦)
تأثير الثقافة العربية في أدبه
إن المطلع على مؤلفات جلال الدين الرومي ولاسيما «مثنوي»، يكتشف بسهولة مدى صلة جلال الدين الرومي بالثقافة الإسلامية والعربية، ومدى تدبره وعمق إدراكه لهذه الثقافة الواسعة التي فهمها في ضوء تجربته العرفانية والصوفية، ووظفها أحسن توظيف في سبيل غاياته السامية والإنسانية.
فقد استفاد من القرآن الكريم، والحديث النبوي، وأحداث التاريخ الإسلامي ... إلخ، أحسن استفادة.
ولقد برز تأثره بالقصص الديني الذي ذكر منها بديع الزمان فروز انفر حوالي مئة وعشرين مصدراً.
كما أن الحديث النبوي، والأحداث الكبرى والصغرى في التاريخ الإسلامي، وسيرة المسلمين الأولين، والشخصيات الشهيرة والبارزة في التاريخ الإسلامي، وأقوالهم وأعمالهم، شكلت مصدراً مهماً من مصادر الرومي الثقافية التي بدت جلية في مؤلفاته ولاسيما في «مثنوي» و «ديوان شمس».
إضافة إلى الثقافة الإسلامية التي استفاد جلال الدين الرومي منها، وإن كان ثمة اختلاف بين الأدباء والنقاد حول الأشخاص الذين تأثر بهم الرومي.
حيث تناول بعض الباحثين احتمال تأثر الرومي بكلمن ابن الفارض وابن عربي.
فضلاً عن تناولهم قضية تأثر جلال الدين الرومي في إنشاد بعض أشعاره بأبي نؤاس. (٧)
وفاته
توفي جلال الدين الرومي في ليلة شتائية من العام ۱۲۷۳م، الموافق ٦٧٢ للهجرة.
ولطالما تحدث هو عن تلك الليلة وترقبها واصفاً إياها بليلة زفافه، ليلة اتحاد كيانه المادي مع كيان الكون واندماجه في الحياة السرمدية، وعيد انفصال نفسه عن جسده، وتحرر روحه من الأسر. (٨)
قائمة المراجع:
١- علي حسون، جلال الدين الرومي، مجلة الآداب الأجنبية، العدد ٧٧-٧٨، ١٩٩٤، ص ١٨٦.
٢- سيفنج رضاييف، جلال الدين الرومي... مولانا والسماع والناي، جريدة الفنون، العدد ١٦٦، ٢٠١٥، ص ١٨.
٣- عارف تامر، صفحات من الأدب الفارسي: جلال الدين الرومي، مجلة الأديب، العدد ٣، ١٩٥٦، ص ٤٧-٤٨.
٤- علي القيم، جلال الدين الرومي، مجلة المعرفة، العدد ٥٢٣، ٢٠٠٧، ص ١٦.
٥- عارف تامر، مرجع سابق، ص ٤٨.
٦- علي القيم، مرجع سابق، ص ١٧.
٧- حيدر خضري، صورة دمشق عند "جلال الدين الرومي"، مجلة التراث العربي، العدد ١٢٣-١٢٤، ٢٠١١، ص ٢٦٤-٢٦٥.
٨- خير الدين عبد الرحمن، جلال الدين الرومي المفكر متعدد المواهب، مجلة المعرفة، العدد ٦٠٥، ٢٠١٤، ص ٤٨.