بحث كامل عن ابن جني
هو أبو الفتح عثمانُ بْنُ جِنِّي، الموصلي، الأزدي، وأبو الفتح كنيته التي ارتضاها لنفسه وصدر بها معظم كتبه، ومنها كتابه المقتضب وكذلك تفسير أرجوزة أبي نواس، واللمع، وعلل التثنية، وغير ذلك.
وعالمنا هذا رومي الأصل يوناني كما يدل على ذلك اسم أبيه "جني" بكسر الجيم وتشديد النون وسكون الياء، وهو مُعَرَّب "كني" أو مُعَرَّب "جنايس" اليونانية Gennaius.
ولا يعرف من سلسلة نسب الرجل إلا اسم أبيه الذي ذكرناه، وكان أبوه هذا عبداً رومياً مملوكًا لسليمان بن فهد ابن أحمد الأزدي وزير شرف الدولة قرواش أمير بني عقيل وصاحب الموصل؛ قال أحد الباحثين المعاصرين عن أبيه: "ولعله كان من هؤلاء الروم المهاجرين إلى ديار الإسلام، أو من سبي هذه الحروب التي كانت تدور رحاها بين المسلمين والروم البيزنطيين على حدود الأناضول وفي قلبه امتداداً إلى القسطنطينية، فانتسب إلى سيده الأزدي، بالولاء، ولا أشك في أنه أسلم وصدق ولائه للإسلام وللعرب، وكان من أثر ذلك أن أهدى للعربية هذه العبقرية التي أحسنت تمثلها فنبغت فيها وأبدعت بها الرائع المبتكر من الآثار" .
مولده
ولد أبو الفتح في مدينة الموصل العراقية، وفيها نشأ وتلقى العلم عن علمائها. أما عن سنة ولادته فلم يرد تحديد لها في كتب التراجم التي ترجمت له؛ غير أن بعض المترجمين ينص على أن وفاته كانت قبل الثلاثين وثلاث مئة للهجرة، وبعضهم ينص على أن مولده كان قبل الثلاث مئة.
ويقول ابن قاضي شهبة في طبقات النحاة وهو بصدد الترجمة لأبي الفتح إنه: توفي وهو في سن السبعين.
تنقلاته
أما عن تنقلاته ورحلاته فتشير المصادر التي ترجمت له، وكذلك يفهم من إجازته التي ذكرتها نقلاً عن ياقوت أن الرجل تنقل بين المدن الآتية:
- الموصل: وهي مسقط رأسه وموطن نشأته الأولى وإليها نسب.
- حلب: ذكر ياقوت عن أبي الحسن الطرائقي أن أبا الفتح كان يحضر بحلب عند المتنبي كثيراً ويناظره في شيء من النحو. وذكر ابن جني نفسه أنه أقام في حلب عندما قال: " قال لي أبو علي بالشام .... ".
- واسط: ذكر ياقوت عن أبي غالب بن بشران النحوي الواسطي أن أبا الفتح ورد إلى واسط ونزل في دار الشريف الجواني نقيب العلويين،وأقام فيها مدة، وأملى خلالها ما عرف بالمسائل الواسطية.
- بغداد: وهي المدينة التي كان لها الفضل في صنع عالمنا الكبير، حيث دخلها طلبا للعلم وملازمة لأبي على الفارسي، وبقي فيها يُدرِّسُ ويؤلّف إلى أن توفي أبو علي، فتصدر بعده مجلس التدريس.
- فارس وشيراز: أشار الشيخ النجار إلى أن أبا الفتح رحل إلى بلاد فارس وزار بلاط البويهيين.
مكانته العلمية
لأبي الفتح مكانة علمية بارزة يشهد لها كثرة مؤلفاته ومصنفاته، تلك المصنفات التي أبر بها على المتقدمين وأعجز المتأخرين، كما ذكر ياقوت.
وكان الرجل من أحذق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو والتصريف، ولم يكن في شيء من علومه أكمل منه في التصريف، ولم يتكلم أحد في التصريف أدق كلاما منه.
وذكره أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي في دمية القصر فقال: ليس لأحد من أئمة الأدب في فتح المقفلات وشرح المشكلات ماله؛ فقد وقع عليها من ثمرات الأعراب ولاسيما في علم الإعراب ومن تأمل مصنفاته وقف على بعض صفاته، فوربي إنه كشف الغطاء عن شعره، وما كنت أعلم أنه ينظم القريض أو يُسيع ذلك الجريض حتى قرأت له مرثية في المتنبي أولها:
غاضَ القَرِيضُ وَأَنْوَتْ نُضْرَةُ الأَدَبِ
وَصَوحَتْ بَعْدَ رِي دَوْحَةُ الكُتُبِ
سلِبْتَ ثَوْبَ بَهَاءٍ كُنْتَ تَلْبَسُهُ
كَمَا تُخَطَّفُ بالخَطْيَّةِ السلب.
وكانت لأبي الفتح مكانة ومنزلة عند المتنبي، وكان المتنبي يعجب به وبذكائه وحذقه ويقول فيه: هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس.
وسئل المتنبي بشيراز عن قوله: وَكَانَ ابْنَا عَدُوٌّ كَاثَرَاهُ لَهُ يَاءَ يَ حُرُوفِ أَنَيْسِيانِ.
وفاته
أجمعت المصادر التي ترجمت لأبي الفتح على أن وفاته كانت ببغداد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة من الهجرة.
بعد حياة علمية حافلة قضاها عالمنا الجليل في التدريس والتأليف، فأبدع وجادت عبقريته بكنوز في العربية وفنونها أربت على السبعين مؤلفًا جلها في علم التصريف؛ ذلك العلم الذي أبدع فيه وتميز وفاق فيه أقرانه وشهد له الجميع بذلك منهم القاصي والداني، ولم يُسْتَثْنَ من هذا الإجماع سوى ابن الأثير الذي ذكره تحت وفيات سنة ثلاث وثلاث وتسعون.
ويحدد لنا الخطيب البغدادي تاريخ وفاته باليوم والشهر والسنة موثقًا؛ حيث يقول: "وكانت وفاته ببغداد على ما ذكر لي أحمد بن علي بن التوزي في يوم الجمعة لليلتين بقيتا من صفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة".
رحم الله أبا الفتح رحمة واسعة وجزاه عن العربية وأهلها خير الجزاء.
قائمة المراجع:
عبد المقصود محمد عبد المقصود، المقتضب من كلام العرب في اسم المفعول من كلام الثلاثي المعتل العين لأبي الفتح عثمان بن جني المتوفى سنة ٣٩٢هـ، عالم المخطوطات والنوادر، المجلد ٣، العدد٢، ١٩٩٨، ص ٢٦١-٢٧٢.