بحث عن الأصمعي مع المراجع:"ذاكرة العرب" الذي حفظ 16 ألف أرجوزة (بحث شامل)

بحث عن الأصمعي مع المراجع:"ذاكرة العرب" الذي حفظ 16 ألف أرجوزة (بحث شامل)

​تخيل رجلاً واحداً يحمل في عقله مكتبة كاملة من الشعر واللغة!

في زمن لم تكن فيه طباعة ولا حواسيب، كان الأصمعي يمشي على الأرض بذاكرة حديدية، يحفظ عشرات الآلاف من الأبيات، ويجوب الصحاري بحثاً عن كلمة عربية فصيحة لم تلوثها العجمة. إنه "إمام اللغة" الذي جالس الخلفاء، وأضحك الملوك بنوادره، ووضع الأسس التي قام عليها كل معجم لغوي جاء بعده. 

في هذا الملف، نغوص في حياة هذا العبقري البصري، لنعرف كيف جمع "الأصمعيات"، ولماذا يعتبره العلماء أصدق من روى عن العرب.

الاسم الكامل: عبد الملك بن قُريب بن علي الباهلي.

اللقب: الأصمعي (نسبة لجده أصمع).

المولد: ١٢٣ هـ (٧٤٠ م) في البصرة.

الوفاة: ٢١٦ هـ (٨٣١ م) تقريباً.

العمر: عاش نيفاً وتسعين عاماً.

المهنة: راوية، لغوي، مؤدب الأمراء، وناقد أدبي.

أشهر آثاره: الأصمعيات، كتاب الإبل، كتاب الخيل.

المكانة: راوية العرب، واحد أئمة اللغة والبلاغة. 

الأصمعي

النسب والمولد: لماذا سُمي بـ "الأصمعي"؟


أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن رباح بن عمرو بن عبد الشمس بن أعيا بن سعد بن غنم بن قتيبة بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان المعروف بالأصمعي الباهلي، وهذا أصح ما ورد في نسبه، ولعل هذا شأن العرب في الرجوع بنسبهم إلى عدنان وقحطان. (١)


سر اللقب:


نسب الأصمعي إلى جده (أصمع) فلقب بالأصمعي، والأصمعي الأملس المحدد وبه سمعت الصومعة، يقال: رجل أصمع إذا كان ذكي حديد الفؤاد، والأصمعان "الرأي الحازم. (٢)


النشأة في البصرة: بين الثورات والتعصب للعروبة


تنفق المصادر التي ترجمت للأصمعي وذكرت مولده على أنه ولد سنة ١٢٣هـ، إلا صاحب وفيات الأعيان فقد ذكر أنه ولد سنة ١٢٢هـ، ثم قال: وقيل سنة ١٢٣هـ. كما ذكر الفيروز آبادي أنه ولد سنة ١٣٥هـ.


وبهذا يكون الاصمعي قد ولد في خلافة (هشام بن عبد الملك) وقضى كما تؤكد المصادر أكثر من تسعين عاماً، فيكون قد عاش نحو تسعة أعوام في العصر الأموي، وأربعة وثمانين عاماً في العصر العباسي وأمضى الشطر الأكبر من حياته في البصرة مكان ولادته، ومستقر آبائه وأجداده، فقد كان فيها حي يعرف بحي بني أصمع.


وقد عاش الاصمعي في الدولة الأموية التي كانت الثورات تكاد تمزق أقاليمها، فينتهي أمرها بالسقوط في سنة ١٣٢هـ أمام الثورة العباسية، وتسقط مدينة الاصمعي في أيدي الثائرين ووقتها كان في عامه التاسع، فهو إذن عاصر الدولتين، وعاش التحولات المفاجئة في مختلف نواحي الحياة، يومها كانت البصرة تعيش جواً محموماً تتضارب فيها الاعتقادات المذهبية والمبادىء الحزبية، وتشتد الخلافات العنصرية بين الفرس والعرب، وكان الأصمعي يخوض الغمار متعصباً لقوميته العربية. ويحارب الشعوبية ويقارعها حجة بحجة، ودليلاً بدليل. (٣)


رحلة العلم: 20 عاماً في قلب الصحراء


وتلقى الأصمعي العلم على ايدي كبار علماء عصره كأبي عمرو بن العلاء وحماد الرواية وعيسى بن عمر والخليل بن أحمد الفراهيدي وخلف الأحمر ويونس بن حبيب ورحل إلى البادية أو طرف بين البصرة والكوفة ومكة والطائف والمدينة حتى استغرقت رحلته عشرين سنة شافه فيها العرب واستمع الى رواة الشعر وبعد أن أشبع نهمه الى العلم والرواية عاد الى البصرة ثم رحل إلى بغداد تلبية لدعوة الخليفة هارون الرشيد الذي أدنى مجلسه وأسبغ عليه الكثير ثم صرفه الى البصرة عندما نكب البرامكة سنة ۱۸۷هـ وامتدت اقامته في بغداد أربع عشرة سنة.


واستقر الاصمعي في البصرة بقية حياته. ويبدو ان تقدم السن به منعه من تلبية دعوة الخليفة المأمون الى بغداد. (٤)


مكانته العلمية والدينية: "لم يُتّهم في دينه"


أشارت المصادر التي روت عنه أنه كان ديّناً، صادقاً في معتقده، وقد حج أكثر من مرة، واتصل بفقهاء الحجاز وأخذ عنهم كما «لم يتهم الاصمعي في شيء من دينه»، وقد أثنى عليه علماء الدين ورجال الحديث وروى بعضهم عنه فلو شكوا في صدقه وعفافه وتقواه لتحاشوه وابتعدوا عنه، واقتبس معظم علماء اللغة والأدب - بعد - موته - من آثاره معتمدين بذلك على صدقه، «قال محمد بن إبراهيم: سمعت الإمام أحمد بن محمد بن حنبل يثني على الأصمعي بالفقه، قال: وسمعت علي بن المديني يثني عليه، وقال: سمعت الامام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين يثنيان عليه في السنة».


ولقد كان على مذهب أهل السنة والجماعة، وهو مذهب أسرته وأساتذته الذين لازمهم قال «إبراهيم الحربي: كان أهل البصرة كلهم أصحاب أهواء إلا أربعة فإنهم كانوا أصحاب سنة: أبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد ويونس بن حبيب». (٥)


أقوال العلماء وأصحاب التراجم فيه


وردت الكثير من الأقوال في الأصمعي منها:


  1. قول الأزهري: "صدوقا في الحديث".
  2. قال الشافعي فيه: "ما عبر أحد عن العرب بأحسن من عبارة الأصمعي".
  3. قال الأخفش للرياشي: "لم أدرك أحداً أعلم بالشعر من خلف الأحمر والأصمعي".
  4. قال الرياشي: "قلت للأخفش أيهما كان أعلم؟ قال: الأصمعي لأنه كان أعلم بالنحو".
  5. قال أبو الطيب: "كان أتقن القوم للغة وأعلمهم بالشعر".
  6. وقال السيوطي: "وكان من أعلم الناس في فنه". (٦)


شعره: إنجازه الأكبر: كتاب "الأصمعيات"


كان الأصمعي كما من صاحب حافظة عجيبة في حفظ الشعر وقدرة على اختيار الجيد منه، وكان الأصمعي يقول عن نفسه: «أحفظ عشرة آلاف أرجوزة»، وقيل: (بل ستة عشر ألفاً) اضافة الى ما كان يحفظه من دواوين الشعر.


ويروى أن أبا جعفر المنصور أشار على المفضل الضبي أن يختار أجود قصائد المقلين ليدرب بها المهدي ابنه ويعلمه روائع الشعر وخالصه، فكان أن اختار المفضل قصائد نسبت إليه وسميت المفضليات. 


وتقبل الأدباء هذه القصائد بقبول حسن، فرددها شيوخاً وتلاميذ، وعلقوا عليها شروحاً وزيادات، وكان للأصمعي في هذا الميدان نصيب وافر، ويبدو أن الرشيد راقه صنيع المنصور والمفضل، فاذا به يكل الى الأصمعي تأديب ابنه الأمين، ويرغب اليه أن يختار قصائد من عيون الشعر القديم ليتعلمها ابنه ويدرب بها، واستجاب الأصمعي لهذه الرغبة وجمع قصائد نسبت اليه وسميت «الأصمعيات».


وقد أعجب كبار الشعراء باختيار الأصمعي للقصائد الشعرية كما أعجبوا باختيار المفضل من قبل، وأشادوا بمنزلتيهما وأجمعوا على صحة الأشعار فيهما وتقدمها.


وتتألف الأصمعيات من اثنتين وتسعين قصيدة ومقطوعة من الرجز اختارها الأصمعي لواحد وسبعين شاعراً، أربعة وأربعون منهم جاهليون وأربعة عشر مخضرمون وستة اسلاميون وسبعة جهل الدارسون تاريخهم وتعالج القصائد موضوعات متنوعة، ولم يعمد الأصمعي فيها الى تبويب، غير أنها لم تنل ما نالته مجموعات شعرية بعدها، فقد كانت قيمتها اللغوية تفوق قيمتها الفنية. 


ولم يعرف عن الأصمعي أنه كان شاعر أو لكنه كان نقاداً، يتذوق الشعر ويحفظ جيده وله نظرات نقدية صحيحة دقيقة فيه وكان، الى هذا، مثالا للبلاغة في التحليل الأدبي. 


وبعد، فقد اشتهر الأصمعي بفكاهاته ونوادره وتهكمه اللاذع الفطري الظريف الذكي، وكان يسمح لنفسه في النوادر والملح والطرائف أن يتزيد ويخترع ...


هذا هو الأصمعي عبد الملك بن قريب بن علي بن الأصمعي الباهلي اللغوي النحوي المشهور، مات في خلافة المأمون بعد أن ترك ثروة من كتبه، وانتزع أعجاب الكثيرين وتقديرهم، وملأ بأخباره بطون الكتب الأدبية.


لقد كان من الرواد الأوائل الذين ساعدت مصنفاتهم اللغوية الموثقة والمختصرة على تأليف المصنفات المطولة التي اعتمد عليها واضعو المعاجم اللغوية، وكانت سبيلا الى وضع علوم عربية أخرى منها اللغوي ومنها التاريخي ومنها الديني.


لقد كان الأصمعي عالما، بذل أقصى جهده في تحصيل علمه وقدم لنا زبدة معارفه، فاستحق أن يدخل التاريخ، وفي تاريخنا العربي أسماء كثيرة، لمعت وأضاءت وكان لها الفضل في تمهيد السبل التي سارت في هديها العقول العربية المبدعة التي أعطت أفضل الثمار للفكر العربي وللحضارة الإنسانية. (٧)

وفاته

توفي الأصمعي في البصرة في خلافة المأمون (حوالي سنة ٢١٦ هـ)، بعد أن ترك ثروة لغوية هائلة. لقد كان الجسر الأمين الذي عبرت عليه لغة العرب من الجاهلية إلى عصور التدوين، ولولاه لضاع جزء عظيم من تراثنا اللغوي.(٨)

​أسئلة شائعة عن الأصمعي (FAQ)

​س: ما الفرق بين الأصمعيات والمفضليات؟

ج: المفضليات جمعها المفضل الضبي للمهدي، وتميزت باختيار قصائد الطوال (القصائد الكاملة). أما الأصمعيات فجمعها الأصمعي للأمين، وركز فيها على الأراجيز والمقطوعات التي تخدم اللغة والنحو، وعددها أقل.

​س: هل قصة "صوت صفير البلبل" حقيقية؟

ج: هذه القصيدة المنسوبة للأصمعي (التي يُقال إنه تحدى بها الخليفة أبا جعفر المنصور) مشكوك في صحتها عند أغلب المحققين؛ لأن أسلوبها ركيك ولا يتناسب مع فصاحة الأصمعي، ولا مع وقار مجلس المنصور، ولم ترد في المصادر القديمة الموثوقة.
س: ماذا كان مذهب الأصمعي؟

ج: كان سنياً على مذهب أهل الحديث، شديد التمسك بالسنة، ومعادياً لأهل الأهواء والبدع (مثل المعتزلة) والشعوبية.
س: من هم أشهر تلاميذ الأصمعي؟

ج: تتلمذ على يده كبار علماء اللغة مثل أبي عبيد القاسم بن سلام، والرياشي، وتناقل عنه العلماء جيلاً بعد جيل.

 ​🧠 رحلة في عقول الأدباء: من الشعر إلى النثر

​لقد تعرفنا اليوم على "حارس الشعر" الأصمعي، ولكن ماذا عن "مهندس النثر" الذي سبقه؟

إذا كان الأصمعي قد حفظ لسان العرب من الضياع في البوادي، فإن هناك عبقرياً آخر طوع هذا اللسان ليكتب أروع القصص السياسية والاجتماعية في القصور. إنه الرجل الذي نقل حكمة الفرس إلى لسان العرب.


قائمة المراجع:


١- مصطفى فؤاد حسن أبو عواد، الأصمعي والمعجمية العربية لسان العرب نموذجا، رسالة ماجستير، كلية الدراسات العليا، الجامعة الأردنية، ٢٠٠٩، ص ٤.


٢- المرجع السابق نفسه. 

٣- إياد عبد المجيد إبراهيم، الأصمعي وجهوده في رواية الشعر العربي، ط١، وزارة الثقافة والاعلام دار الشؤون الثقافية العامة، ١٩٨٩،  ص ٢٣.


٤- محمود الجادر، الأصمعيات - دراسة في أسس الاختيار، مجلة المورد، العدد ٣، ٢٠٠١، ص ٤٤-٤٥.


٥- إياد عبد المجيد إبراهيم، مرجع سابق، ص ٢٥.


٦-  مصطفى فؤاد حسن أبو عواد، مرجع سابق، ص ٨.


٧- نهلة الحمصي، الأصمعي عبد الملك بن قريب، مجلة التراث العربي، العدد ١٠، ١٩٨٣، ص ١٩٢-١٩٣.


٨- المرجع السابق نفسه.


مكتبة جواد
مكتبة جواد
تعليقات