بحث كامل عن ابن المقفع
من المعلوم أن عبد الله بن المقفع واحد من أساطين البيان العربي، وعلم من أعلام الكتابة الديوانية؛ إذ كتب في دواوين بعض ولاة بني أمية قبل قيام الدولة العباسية واختص بعيسى بن علي العباسي عم السفاح والمنصور، بعد قيامها، وكان على دين أبائه الفرس ثم أسلم على يدي عيسى بن علي، وكتب لأخيه سليمان بن علي، إبان ولايته على البصرة. (١)
ولد ابن المقفع على وجه التقريب عام ١٠٦ أو ١٠٧ للهجرة، وقتل بين عامی ١٤٢ - ١٤٥ للهجرة، ويقال إنه عاش أربعين عاما أو قريباً منها، وكان مولده بقرية من قرى فارس اسمها «جور» وهي المعروفة حاليا - بفيروز آباد، وكان اسمه بالفارسية (زوريه ابن داذويه) ومعنى اسمه (المبارك) فلما أسلم تسمى بعبد الله وتكنى بأبي محمد، ويقال أيضا أنه ولد بالبصرة على أنه من المعروف أن بقعة الاهواز التي منها قريته الفارسية قريبة من البصرة.
وتروى أسباب مختلفة حول اصابة يد أبيه بالعطب أو التقفع، من بينها أن الحجاج بن يوسف الثقفى كان قد ولاه خراج فارس فاحتجز شيئا من أموال الخراج، فضربه الحجاج ضربا شديدا حتى تقفعت يده، ومن هنا سمى كاتبنا بابن المقفع ...
المهم أن نشأته كانت بالبصرة. وكانت البصرة آنذاك حاضرة العلماء والأدباء، ومعروف أن بها أرض المريد، حيث المناشدة والمفاخرة والتهاجي، ويكفى أن نعلم أن البصرة قد نبغ فيها عديد من الشعراء والعلماء منهم: بشار بن برد، وصالح بن عبد القدوس، والرقاش، والخليل بن أحمد، وسيبويه، وغيرهم من أئمة الادب واللغة، وفيها كان الحسن البصرى يعقد حلقاته، وفيها اعتزله واصل بن عطاء.
نشأ ابن المقفع في هذه البيئة العالمة المتأدبة، وكان ولاؤه في آل الأهتم وهم أهل لسن وفصاحة، ومنهم الشاعر الشهير عمرو بن الأهتم الذي ما زال شعره الجاهلي يزحم النفس بالاعجاب، ويقهرها بما فيه من مثل عليا وغايات نبيلة، وهو الذي تتمثل الأجيال قوله:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها … ولكن أخلاق الرجال تضيق
ومن نشأة ابن المقفع بالبصرة وفي آل الأهتم تدرك أن طريقه إلى التأدب العالي قد وجد، ولم يبق أمام اكتماله ونجحه إلا أن يكون صاحب موهبة في نفسه واستعداد في طبعه، وقد كان ذلك موفوراً لديه الى حد بعيد. (٢)
لقبه
أما لقب المقفع الذي لزم والده واشتهر به من بعده، فيروي فيه ابن خلكان أن والده كان جابياً لخراج فارس من قبل الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق، ولما مد يده فيما قيل الى التلاعب بالأموال وصرفها في البذخ والترف، استثار غضب الحجاج، فأمر بضربه ضرباً مبرحاً حتى تقفعت يده فسمي بذلك المقفع.
وفي رواية أخرى ذكرها ابن خلكان أن والد ابن المقفع كان جابياً لخراج فارس من قبل خالد بن عبد الله القسري والي العراق، ولما تولى يوسف بن عمر الثقفي العراق بعده غضب عليه فأمر بضربه حتى تقفعت يده.
وقيل خلاف ذلك: المقفع - بكسر الفاء - لأنه يعمل القفاع: جمع قفعة وهي شيء يصنع من الخوص يشبه الزنبيل.
ولكن الرأي الأول هو الشائع والمشهور. (٣)
أخلاقه
وإذا تدبرنا أخلاقه رأيناها تتجلى في سجاياه الكريمة، وقوامها: المروءة والحكمة.
فقد عرف كاتبنا بالرصانة وسهولة المخالفة والإباء والترفع عن الدنايا، وغدا وفاؤه للخلان والاصدقاء مضرب الأمثال: فقد طلب صديقه عبد الحميد بن يحيى «الكاتب بعد مقتل مروان بن محمد» آخر خلفاء بني أمية، فلجأ إليه، وفاجأتهما الشرطة في بيت واحد، فقالوا لهما: «أيكما عبد الحميد» ؟ فأجاب ابن المقفع: «أنا»، خوفا على صديقه، لكن عبد الحميد أبي أن يقتل صاحبه فدى عنه، فأبان عن حقيقة شخصه فاعتقل، ثم قتل ... وهكذا سجل ابن المقفع اروع ضروب الوفاء والاخلاص.
مطبقا ما قاله في كتابه «الادب الكبير»: «ابذل لصديقك دمك ومالك» ! (٤)
أصل كتاب (كليلة ودمنة)
ذهبت أكثر الروايات إلى أن أصل كتاب كليلة ودمنة هندي، ثم جاء ابن المقفع، ونقل النص إلى الفارسية ثم إلى العربية مضيفاً عليه بعض الملامح العربية، متصرفاً حيناً ببعض القضايا التي تتناسب مع واقع المجتمع العربي الإسلامي، بحيث أعطى ابن المقفع الكتاب طابعاً عربياً في الأسلوب والصياغة، ويشير بعض الباحثين إلى أن الكتاب من تأليف ابن المقفع وليس من ترجمته، ومن هؤلاء الباحثين الأستاذ أحمد كمال زكي، إذ قال: " إنَّ الكتاب ابن البصرة، وجزء منها، وقد يتنازعه فيها الهنود والفرس، وقد يضطرب واحد كابن خلكان فينسبه إلى ابن المقفع، وقد يسوق ما ينقض هذه النسبة، إلا أنه سيظل مقروناً بابن المقفع". (٥)
الغرض من تأليف كتاب (كليلة ودمنة)
والغرض من هذا الكتاب تهذيب الأخلاق، وتزويد القارئ بمختلف النصائح والحكم، بغية تثقيفه وتوجيهه نحو سبل النجاح في الحياة، والتغلب على ما يعترض طريقه من عقبات وصعاب فالهدف الرئيسي لكتاب كليلة ودمنة، هو إصلاح المجتمع، وحث المرء على التحلي بالأخلاق الفاضلة، واجتناب الرذائل.
وهو موسوعة تتضمن تجارب القدماء وأمثالهم وحكمهم، وردت في قالب تسلية وترفيه، وفى أسلوب يمتاز بسلاسة العبارة، ووضوح المعاني، واجتناب التصنع والتكلف. (٦)
اتهامه بالزندقة
فاما اتهامه بالزندقة فله اسوة بكثير من سلاطين الملة الذين كانوا زعماء الأدب وبهم قامت دعائم العلم قال ابن النديم في كتابه الفهرست «ذكر من كان يرمى بالزندقة من الملوك والرؤساء قبل أن البرامكة بأسرها إلا محمد بن خالد بن برمك كانت زنادقة وكان محمد بن عبد الله كاتب المهدي زنديقاً واعترف بذلك فقتله المهدي».
والسر في ذلك ان اهل القرن الأول من الإسلام وكذلك الثاني كانوا يكرهون الفلسفة والعقليات إلا الخواص منهم فكل من كان له مزيداً من الاعتناء والميل المفرط إلى العلوم العقلية كانت العامة ترميهم بالزندقة على ترجم كثيراً من كتب زنادقة المجوس كما صرح به المسعودي ذلك أن ابن المقفع كان ترجم كثيرا في كتابه مروج الذهب. (٧)
شعر ابن المقفع
لابن المقفع شعر قليل، وصف بأنه ذات جودة، وكان ابن المقفع لا يرتضي شعر نفسه، فسألوه عن ذلك، فقال: الذي أرضاه لايجيئني والذي يجيئني لا أرضاه.
ولم يبقى من شعره إلى ثلاث أبيات يرثي بها صديقه (يحيى بن زياد الحارثي)، وهذه الأبيات الثلاثة ذكرها (أبو تمام) في كتابه الحماسة:
رزئنا أبا عمرو ولا حي مثله … فلله ريب الحادثات بمن وقع
فإن تك قد فارقتنا وتركتنا … ذوي خلة ما في انسداد لها طمع
فقد جر نفعا فقدنا لك اننا … امنا على كل الرزايا من الجزع (٨)
وفاته
تعددت أسباب مقتله، فأحد أسباب مقتله هو اتهامه بالزندقة، وكذلك من أسباب مقتله هو معارضته للقرآن الكريم وأيضا قيامه بترجمة كتب الزنادقة …الخ.
مات وقد بلع عمر ستة وثلاثين سنة، ويقال إنه خلف ولداً واحد يسمى محمد، وبسسب اتهامه بالزندقة لم يطالب أحد بدمه. (٩)
قائمة المراجع:
١- قحطان صالح الفلاح، عبد الله بن المقفع والسياسة - قراءة جديدة، مجلة المعرفة، العدد ٥١٣، ص ٤٣.
٢- محمد أبو الأنوار، عبد الله بن المقفع"الرجل .. الأسلوب"، مجلة الهلال، العدد ٩، ١٩٧٣، ص ٧٢.
٣- اكرم علي عنبر الربيعي، أدب ابن المقفع بين ناقديه قديما وحديثا : تحليل وموازنة، رسالة ماجستير، كلية التربية، الجامعة المستنصرية، ٢٠٠٤، ١٤.
٤- د. فكتور الكك، إبن المقفع أديب العقل، ط١، دار الكتاب اللبناني، ١٩٨٦، ص ٧-٨.
٥- أمل سلمان حسان، الأساليب البديعية في أدب ابن المقفع، مقاربة من منظور اللسانيات النصية، أطروحة دكتوراه، كلية التربية للعلوم الانسانية (ابن رشد)، جامعة بغداد، ٢٠١٦، ص ٣٠.
٦- عبد الحميد حاجيات، عبد الله بن المقفع - زعيم التعريب في عصره، مجلة الأصالة، العدد ١٧-١٨، ١٩٧٣، ص ٣٠٩.
٧- شبلي النعماني، إسلام عبد الله بن المقفع، مجلة الهلال، العدد ١٧، ١٩٠٠، ص ٥٦٠.
٨- خليل مردم بك، ابن المقفع، ط١، مكتبة عرفة بدمشق، ص ٦٩.
٩- مأمون بن محيي الدين الجنان، عبد الله بن المقفع حياته آثاره وأدبه، ط١، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ١٩٩٣، ص ٣٤.