أخلاقيات البحث العلمي
على الرغم من التعريفات المتعددة لمفهوم الأخلاق إلا أنه يمكننا أن نقدم تعريفا محددا للأخلاق يتمثل في أنها: مجموعة من المعايير والإجراءات والقواعد التي يتبناها المجتمع ويتفق حولها، والتي تمثل عدد من المبادئ لا يجب الخروج عليها أو تجاوزها .
ولكل مهنة من المهن أو حرفة أو وظيفة أو غير ذلك مما يدخل تحت ممارسات الأفراد من أنشطة على اختلاف مجالاتها واتجاهاتها وطبيعتها مجموعة من القواعد، التي تحكم وتنظم وتحدد وتوجه وترسم حدود ما يجب أن تلتزم به وتخضع له من ضوابط، وهي ما يمكن ان نطلق عليه الأخلاقيات المتصلة بكل مهنة أو نشاط .
والبحث العلمي كمجال يتصل بكل ما يتعلق بالحياة في مختلف أبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والاعلامية، وغير ذلك، يتطلب الالتزام بمنظومة من المعايير الاخلاقية المتفق عليها، والتي تلزم الباحثين بمجموعة من القواعد العامة التي يجب مراعاتها والتوقف عندها .
ونظرا للتطور الهائل والضخم في مجالات البحث العلمي، والتوسع في استخدامه في كافة الحقول العلمية، وازدياد الاعتماد عليه في مختلف مناحي الحياة وبدون استثناء، فقد صار لزاما على المجتمع الإنساني أن ينتبه إلى أهمية الالتزام بوضع ضوابط أخلاقية تحكم سير البحث العلمي، بما يمكن من الاستفادة من نتائجه بالصورة المثلى من ناحية، ويحفظ الكرامة الانسانية للأفراد والمجتمعات من ناحية أخرى، ويضمن عدم خروج الباحثين على الأهداف الانسانية والنبيلة للعلم، وتوظيف نتائج البحث العلمي في خدمة التطور الانساني، دون المساس بالقيم العليا، أو النيل من كرامة البشر، أو التعدي على حقوقهم، أو استغلال ظروفهم المادية أو الصحية أو الاجتماعية، أو غير ذلك .
ان عدم الالتزام بالضوابط الاخلاقية في البحث العلمي من شأنه ان يقود إلى أزمة حقيقية تهدد استقرار واستمرار المجتمع الانساني،وتنذر بعواقب وخيمة، خاصة في ظل ما تشهده البشرية من اختراعات مذهلة في التكنولوجيا واستخداماتها المتزايدة في حياتنا اليومية، كما أن إهمال البعد الأخلاقي في البحث العلمي سيؤثر ليس فقط في تهديد استقرار المجتمع، بل سيشكك أيضا في قيمة البحث العلمي، وفي أهميته، وسيؤثر في مكانة الباحثين والدور المنوط بهم، وهو ما يتطلب من الباحثين أن يعوا أهمية وخطورة وحساسية دورهم في المجتمع، لذلك فإن على من يرغب في الولوج إلى عالم البحث العلمي في حقوله المختلفة أن يكون على اطلاع ودراية ومعرفة عميقة بأخلاقيات البحث العلمي، بما يمكنه من ممارسة دوره البحثي في اطار انساني، يحفظ مكانة البحث وهيبة الباحثين، ويعلي من قدر ما يتوصلون اليه من نتائج تفيد في حل مشكلات المجتمع، وتسهم في تطوره .
ونقدم هنا مجموعة من المبادئ والمعايير الاخلاقية التي يجب ان يلتزم بها الباحثين في حقول العلم المختلفة، وذلك كالتالي:
مبادئ أخلاقية عامة
- يجب على الباحث ألا يتعرض بالازدراء أو التحقير أو الاهانة للأديان السماوية .
- يجب على الباحث ألا ينشر أية معلومات تحصل عليها في بحثه من شأنها أن تضر بالأمن القومي للدولة .
- يجب على الباحث أن يحترم القيم والمبادئ والمثل العليا للمجتمع الذي يعمل فيه.
- يجب على الباحث أن يتجنب كل ما من شأنه أن يتسبب في إحداث ضرر للحياة البشرية، أو للبيئة المحيطة بأي صورة من الصور .
- يجب على الباحث أن ينتقي المشكلات والقضايا البحثية التي تسهم دراستها في حل قضايا المجتمع، وتكون ذات فائدة وجدوى للإنسانية جمعاء .
- على الباحث ان يعي ان الانتهاء من إجراء البحث لا يعني الشروع في نشره فورا، ذلك إنه إذا ما تبين للباحث أن عملية النشر قد ينتج عنها ضرر للمجتمع على أي صعيد وعلى أي مستوى فيجب التخلي عن فكرة نشره، وتأجيل ذلك إلى حين توفر الظروف الملائمة.
المصداقية
تمثل المصداقية الخاصية الأولى التي يجب أن يلتزم بها الباحث، وللمصداقية في البحث العلمي عدة أوجه، تبدأ منذ اللحظة الأولى في شروع الباحث في عمله، ويمكن تحديدها في ما يلي :
- أن يكون الباحث صادقا في تحديد الهدف من بحثه، ويجب ان يدلي بكافة الحقائق المتعلقة بذلك للمبحوثين الذين يقوم بدراستهم، أو الذين يقوم بإجراء التجارب عليهم، ولا يجوز إخفاء اية معلومات تتعلق بما يريد الباحث ان يتوصل إليه من خلال بحثه .
- أن يكون الباحث صادقا فيما يتعلق بتكاليف البحث المادية، فلا يجوز له أن يخفي الحقائق المتعلقة بما يحتاجه البحث من مصاريف ونفقات، خاصة عندما تتولى جهة ما أو مؤسسة بحثية ما تبني المشروع البحثي والانفاق عليه، فلا يبالغ في التقديرات المالية التي يتطلبها انجاز البحث .
- ألا يبالغ الباحث في حجم الصعوبات التي واجهته أثناء قيامه ببحثه، ليظهر انه قد بذل جهودا كبيرة ومضنية في انجاز البحث، ويجب ان يكون واقعيا في ذكر تلك الصعوبات.
- أن يكون الباحث صادقا في عرض كافة الخطوات البحثية التي قام بإجرائها، دون تكلف أو تصنع أو زيادة، أو مبالغة، وان يقدم معلومات صادقة وحقيقية عن كل خطوة، سواء تعلق ذلك بمجتمع البحث أو العينة أو الدراسات السابقة، أو نتائج الدراسة أو غير ذلك.
الأمانة العلمية
من المهم جدا أن يتصف الباحث بالأمانة العلمية في كل خطواته البحثية، وتقتضي الأمانة العلمية من الباحث أن يلتزم بالآتي :
- ان ينسب كل ما استعان به في بحثه من آراء وأفكار وحقائق ومعلومات وبيانات إلى اصحابها الأصليين الذين اقتبس منهم كل ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وفق الأساليب المتعارف عليها في البحث العلمي .
- أن يكون امينا في نقل آراء المبحوثين سواء اتفقت أو اختلفت مع آرائه، ولا يستبعد أية وجهة نظر مهما كانت .
- أن يحافظ على نقل المعلومات والأفكار والآراء من الآخرين الذين يستعين بمجهوداتكم العلمية دون تحريف أو تأويل في غير محله، أو تحميلها أكثر مما تحتمل، أو ان يضعها في غير سياقها المقصود .
- أن يدرك تماما أن البحث العلمي عملية تراكمية ومتواصلة عبر الزمن، تتطلب ألا ينكر الباحث جهود الذين سبقوه، وألا ينسب لنفسه إلا ما قد أضافه فعليا .
- أن يلتزم بالقواعد المتعارف عليها في البحث العلمي فيما يتعلق بشروط الاقتباس، كعدد الأسطر المسموح باقتباسها دفعة واحدة، واستخدام طرق الاقتباس الصحيحة سواء كانت حرفية أو ضمنية أو متقطعة، أو غير ذلك.
- تجنب أي نوع من السرقات العلمية، والتي قد تأخذ عدة صور، تتمثل في:
سرقة عنوان البحث من بحث سبق إجرائه، مع عدم ذكر ذلك – سرقة بعض أو كل خطة البحث بشكل مباشر أو غير مباشر – سرقة بعض أجزاء البحث.
الموضوعية والنزاهة
يجب أن يتحلى الباحث بالموضوعية، وأن يكون نزيها ومحايدا في كل خطوة من خطواته البحثية، ولكي يكون الباحث موضوعيا يجب أن يتصف بالآتي :
- أن يقف على مسافة واحدة من كل الآراء والمواقف التي ينقلها، ولا يتحيز لأي منها بدون سند علمي مقنع .
- ان يحترم وجهات نظر الأخرين سواء كانوا باحثين سابقين، أو المبحوثين الذين يخضعهم للدراسة، ولا يقلل من وجهات النظر التي يختلف معها، أو يحتقرها .
- ألا يهمل أو يغفل اية معلومات أو آراء أو بيانات يتوصل إليها من خلال بحثه، مهما اختلفت مع توجهاته أو توقعاته .
- أن يدون بدقة كافة الملاحظات والمشاهدات والمعلومات التي يحصل عليها أثناء إجراء المقابلات أو التجارب طوال فترة الدراسة .
- اختيار الأساليب الإحصائية المناسبة وفقا للمبررات العلمية، وتجنب انتقاء اساليب احصائية معينة من شأنها أن تقود إلى نتائج بذاتها وبشكل مقصود .
- عدم التركيز على حقائق وأدلة ومعطيات معينة وإهمال غيرها، إذ من شأن ذلك ان يقود إلى نتائج غير حقيقية .
- تقديم النتائج التي يتم التوصل إليها في البحث كما هي دون أدنى تدخل من الباحث.
- إعطاء النتائج نفس الدرجة من الأهمية، وعدم ابراز أو اهمال نتائج معينة بشكل مقصود على حساب غيرها .
- تجنب تقديم إيحاءات معينة بأي صورة كانت، تهدف إلى توجيه المبحوثين لتبني مواقف أو آراء او توجهات وفق رغبة الباحث.
احترام المبحوثين
تجرى الكثير من الأبحاث على عينات بشرية، سواء كان ذلك من خلال المقابلات أو الاستبيانات أو الملاحظة أو التجربة، وفي كل الأحوال فإن التعامل مع هذا النوع من العينات يتطلب من الباحث أن يضع في اعتباره عدد من الأمور، وذلك كالتالي :
- أن يحترم الباحث خصوصية المبحوثين، والا يتدخل في شؤونهم الخاصة.
- ان تحظى المعلومات التي يدلي بها المبحوثين بالسرية التامة، وأن يتعهد الباحث بالالتزام بذلك .
- يجب أن تبقى أسماء المبحوثين سرية وغير معروفة، وعلى الباحث ان يؤكد ذلك للمبحوثين وأن يتعهد به .
- تجنب تحقير وازدراء المبحوثين، أو التقليل من اهميتهم واهمية ما يدلون به من آراء ومواقف واتجاهات .
- توفير كافة الظروف التي تضمن سلامة المبحوثين، خاصة عندما يتعلق الأمر بإجراء بعض التجارب عليهم .
- إذا ما تبين للباحث أن بحثه سيتسبب في إحداث ضرر مادي أو معنوي للمبحوثين، أو للمجتمع عموما فإن عليه ان يتخلى تماما عن القيام بالبحث أو الاستمرار فيه .
- عدم وضع المبحوثين في ظروف قد تعرضهم للمسألة، أو التهديد، أو الخطر، أو أي نوع من الضرر.
- حرية المبحوثين في المشاركة أو الانسحاب من البحث دون أية ضغوطات .
- حق المبحوثين في التعرف على البيانات الأساسية للبحث، ومن ذلك: الجهة التي تقوم بإجراء البحث – الجهة التي يجرى لصالحها البحث – الجهة الممولة للبحث – الهدف من البحث .
- حق أولياء الأمور في منح الموافقة أو الرفض عندما يتعلق الأمر بإجراء بحوث على ابناءهم القصر .
- عدم التدخل لجعل المبحوثين يتصرفون بطريقة معينة، أو حثهم على تبني آراء ومواقف واتجاهات معينة .
- يجب على الباحث أن يبلغ المبحوثين مسبقا في حال رغبته في استخدام آلة تسجيل أو تصوير، وأن يتحصل على موافقتهم بالخصوص، ومن حق المبحوثين ايضا ان يكونوا على بينة بالأشخاص أو الجهات التي ستتطلع على ما يتم تسجيله او تصويره، وحقهم في قبول أو رفض ذلك .
- على الباحث ان يتجنب استخدام الكذب أو التحايل او المخادعة لغرض الحصول على بيانات ومعلومات معينة، ويستثنى من ذلك بعض الحالات المحدودة التي يستنفذ فيها الباحث تماما كل امكانياته للحصول على المعلومات والبيانات بطريقة طبيعية، مع الانتباه دائما إلى عدم تعريض أيا كان للخطر .
- ضرورة تقديم الشكر الخاص للمبحوثين، وتقدير جهودهم في التعاون مع الباحث.
قائمة المراجع:
مسعود حسين التائب، البحث العلمي قواعده - إجراءاته - ومناهجه، الطبعة الأولى، ٢٠١٨، ص ٥١.